هناك درجتان من معرفة أحداث المستقبل:
1. معرفة يقينيـَّة: وهي معرفة ما سيحدث في المستقبل يقينًا بلا أيَّ شكٍّ، وهذا لله (عزَّ وجلَّ) وحده لا شريك له.
2. معرفة ظنيـَّة: وهي معرفة تَوَقُّع، واستنتاج، وتخطيط.
فأمَّا التوقُّع، فهو قياس ما يمكن أن يحدث في المستقبل على ما حدث في الماضي.
ومن أمثلة ذلك: بلد خاضت حربًا في الماضي، وانهزمت، فيُتوقَّع لها إن دخلت الحرب نفسها مرَّة أخرى أنَّها سوف تنهزم مثل السابق.
وأمَّا الاستنتاج، فهو بناء نتائج مستقبليـَّة على أساس مقدِّمات ماضية أو حاضرة.
ومن أمثلة ذلك: توقُّعات الأرصاد الجويـَّة كالتنبُّؤ بدرجات الحرارة، وسرعة الرياح، واتجاهها…إلخ.
وأمَّا التخطيط: فهو انعقاد النِّيَّة على القيام بعمل معيَّن، ثُمَّ تحديد إجراءات للقيام به.
ومن أمثلة ذلك: قرَّر شخص أنـَّه سيسافر بعد أسبوع، فبدأ بالتخطيط لما يجب عليه أن يفعله من إجراءات ما قبل السَّفر، أو أعلنت المدرسة أنَّ الامتحان بعد شهر، فبدأ التلميذ بالتخطيط لكيفيـَّة الاستعداد لاجتيازه بنجاح…إلخ.
وهذه الأشياء كلُّها وأمثالها تدخل في دائرة العلم الظنيِّ بالمستقبل الذي لا يمكن للإنسان أن يضمن حدوثه يقينًا.
ولذلك، نقول دائمًا عندما نتحدَّث عن المستقبل: «إن شاء الله».
وعلى الرغم من أنَّ بعض الناس قد يرى رؤى قويـَّة، وواضحة المعاني، ولها دلالات شبه يقينيـَّة على أحداث مستقبليـَّة، إلَّا أنـَّه لحكمة إلهيـَّة لا تصل هذه المعاني إلى درجة الإخبار بالمستقبل يقينًا، بل يدخل فيها الظنُّ والاحتمال، ولو بنسبة ضئيلة جدًّا، وذلك لسببين:
1. لا يمكن أن تضمن يقينًا صدق الرؤيا، وإن كنت تستطيع ترجيح صدقها بقوَّة، فقد تكون من أحاديث النفس أو من الشيطان.
2. لا يمكن أن تضمن أنَّ تفسيرك للرؤيا أو فهمك لمعناها صحيح يقينًا، وإن كنت تستطيع ترجيح تفسير معيَّن عن غيره بقوَّة.
تفصيلات وأدلة
جاء في القرآن الكريم ما يدلُّ على أنَّ الغيب أو المستقبل لا يعلمه يقينًا إلَّا الله (سبحانه وتعالى)؛ إذ يقول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ (لقمان:34).
وكذلك، يقول (جلَّ جلاله): ﴿قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلَّا مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف:188).
وكذلك، يقول (تبارك وتعالى): ﴿قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأنعام:50).
وكذلك، يقول (العليم الحكيم): ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)﴾ (سورة الجنِّ).
وكذلك، يقول (سبحانه): ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ (النمل:65). وكذلك، يقول (تقدَّست أسماؤه): ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ (سبأ:14).
ولكن قد يقول قائل مثلًا أنـَّه يعرف أنـَّه سوف يخرج لعمله غدًا في الصباح، ولذلك يستعدُّ بالنوم مبكِّرًا، وضبط جهاز التنبيه لإيقاظه في ساعة معيـَّنة.
وقد يقول آخر أنـَّه يعرف أنـَّه سيسافر بعد شهر، ولذلك يستعدُّ بتجهيز الأوراق، وتحضير الأمتعة.
أفلا يعتبر ذلك علم بالغيب أو المستقبل؟
والجواب: أنَّ هذا ليس علمًـا بالمستقبل، بل هو ظنٌّ، أو توقُّع، أو ترجيح لما يمكن أن يحدث في المستقبل بناءً على ما حدث في الماضي أو ما يحدث في الحاضر.
ولكن لا يستطيع الإنسان أن يضمن ضمانًا يقينيًّا أبدًا أنَّ ما توقَّعه للمستقبل سوف يحدث فعلًا؛ لأنَّ مشيئة الله (سبحانه وتعالى) نافذة، وقد يُقدِّر الله (تعالى) ويقضي شيئًا مختلفًا تمامًا عن هذه التوقُّعات والترجيحات المستقبليـَّة للإنسان، وكما يقول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (الإنسان:30).
ولهذا نقول أنَّ الغيب اليقينيَّ لا يعلمه إلَّا الله (سبحانه وتعالى) وحده لا شريك له، أمَّا الغيب الظنيُّ، فيمكن أن «يعلمه» أو يتوقَّعه الإنسان.
واقرأ قول الله (تعالى) في شأن هذا النوع الظنيِّ من معرفة المستقبل: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)﴾ (سورة الكهف).
أمَّا الرؤيا، فإنَّها قد تخبر بأمور الغيب والمستقبل، إلَّا أنَّ الظنَّ يدخل في تفسيرها، فلا يصل هذا الإخبار إلى درجة اليقين الكامل أبدًا، حتَّى ولو تَرَجَّح حدوث هذا التفسير بقوَّة، وحتَّى وإن كان الرائي مسلمًـا صالحًا صادقًا، فهو على الرغم من أنَّ الغالب على رؤاه الصدق، إلَّا أنـَّه لا يستطيع أن يضمن تمامًا أنَّ كلَّ رؤاه صادقة لا يدخلها الكذب، فالنبيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) يقول: «في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب» (حديث صحيح – رواه الترمذيُّ)، أي أنَّ أكثرها صادق، وليست كلُّها بالضرورة.
وكذلك، فإنَّ تفسير الرؤى يُحتمل فيه الخطأ نظرًا لأنَّ الشخص قد لا يستطيع إن يدرك إذا ما كانت الرؤيا مباشرة أم مرموزة.
فمثلًا، نفترض أنَّ مسلمًـا قد رأى صديقه في رؤيا، فربَّما لا يستطيع تحديد ما إذا كان المقصود بصديقه هو صديقه نفسه، أم أنَّ هذا الصديق هو مجرَّد رمز لشيء أو شخص آخر. وكذلك، فقد يكون لمعنى الرمز الواحد في الرؤيا أكثر من احتمال، وهذا كثير، أو قد يكون للرمز معنى صعب غامض بحيث يعجز الشخص حينئذٍ عن تحديد هذا المعنى بدقَّة.
ويمكن تشبيه غالبيـَّة الرؤى – وهي الرمزيـَّة التي تخبر بأحداث المستقبل – في غموضها وعدم يقينيَّة معناها بلوح زجاجيٍّ، بينما يمكن تشبيه درجة الاحتمال والغموض في معناها بدرجة معيَّنة من العتمة في هذا الزجاج، أمَّا الغيب أو المستقبل، فهو ما وراء هذا الزجاج، يسعى الشخص لمعرفته من خلال تدقيق النظر في داخل هذا الزجاج، فتختلف درجة وضوح ما وراء الزجاج للنَّاظر بحسب درجة العتمة في الزجاج.
والله (تعالى) أعلم.
قام بإعادة تدوين هذه على مدونة تفسير الأحلام.
إعجابإعجاب