هل تصلح الرؤى كدليل للحكم على الأشخاص بالصلاح أو الفساد؟

يُعدُّ استخدام الرؤى كدليل للحكم على الأشخاص من الأمور الشائعة بين المسلمين. فكثيرًا ما تُعرض علينا رؤى يطلب أصحابها تفسيرًا لها، يحاولون على أساس هذا التفسير معرفة صلاح أشخاص معيـَّنين أو فسادهم.
ومن خلال التجربة الشخصيَّة، وجدنا أنَّ الغالبيـَّة العظمى من هؤلاء السائلين تنحصر في فتيات مُقبلات على الزواج يسعين من خلال الرؤيا للحكم على من يرغبون في زواجهن.
ولا شكَّ أنَّ الرؤى قد تأتي لتُبيِّن حقيقة بعض الأشخاص، فتُزكِّي شخصًا أو تعيب آخر. فعلى سبيل المثال: قد ترى فتاة خطيبها في المنام مُشرق الوجه، أو يرتدي ملابس بيضاء، فتعتقد أنَّ ذلك دليل للحكم بصلاحه، وربَّما ترى في منامها رؤى من نوع آخر سيِّء، كأن تراه قد اسوَدَّ وجهه، أو أنـَّه يرتدي ملابس قذرة، فتعتقد أنَّ ذلك دليل للحكم بفساده.
ورغم أنَّ هذه الرؤى وأمثالها قد يغلب عليها الصدق، ورغم أنَّها قد ترشد إلى صلاح أو فساد أشخاص معيـَّنين فعلًا، إلَّا أنـَّه ينبغي للمسلم أن يكون على حذر شديد قبل أن يُصدِر أحكامًا نهائيـَّة على الناس اعتمادًا فقط على الرؤى، وذلك لأنَّ الشيطان قد يُري المسلم في منامه ما يحاول أن يُفسد به دينه، وحياته، وعلاقاته الطيـَّبة.
وكذلك ينبغي أن يدرك المسلم أنَّ هناك رؤى صادقة ظاهرها سيِّء، ومع ذلك فقد يكون لها تفسير طيِّب يعرفه العالمون بها. وبالمثل أيضًا، فهناك رؤى ظاهرها طيِّب، ومع ذلك فقد يكون لها تفسير سيِّء يعرفه العالمون بها، فكيف يمكن أن يحكم المسلم على الناس من خلال هذه النوعيـَّة من الرؤى؟!
وبناء على ذلك، فإنَّ القاعدة الأساسيَّة في هذه المسألة هي أنَّ الرؤى الصادقة قد تصلح للحكم على الناس، ولكنَّها لا تصلح وحدها كدليل لإصدار أحكام نهائيـَّة عليهم بالصلاح أو الفساد دون أن يكون هناك من الأدلَّة الواقعيـَّة ما يؤيِّد ما قد تشير إليه هذه الرؤى من معانٍ، بمعنى أن تكون هناك أفعال أو أقوال صدرت عن الشخص تدلُّ على صلاحه أو فساده بالفعل.
وبالتالي، فلا ينبغي للمسلم أن يقطع علاقات أو يوطِّدها بناء فقط على رؤى.
وإذا أردنا أن نفهم كيفيـَّة الاستخدام الصحيح للرؤى في الحكم على الأشخاص، فيمكننا أن نُفصِّل ذلك في النقطتين التاليتين:
1. الرؤى تأكيد لدليل واقعيٍّ في الحكم على الناس، ولا ينبغي أن تكون هي نفسها دليل الحكم عليهم: في هذه الحالة، تكون الرؤيا دليلًا لتأكيد صلاح أو فساد شخص معلوم الحال أصلًا، وليس لإصدار حكم جديد عليه. وبناء على ذلك، ينبغي أن يكون الرائي عالمًا علمًا سابقًا بأحوال صلاح أو فساد الشخص الذي يريد أن يحكم على حاله من خلال الرؤيا، ولا يأتي هذا العلم إلَّا من خلال ملاحظة الشخص أو التعامل معه، ففي هذه الحالة، يكون دور الرؤى هو التأكيد فقط على صلاح الصالحين أو فساد الفاسدين الذين يعلم الرائي بأحوالهم.
فعلى سبيل المثال: نفترض أنَّ رجلًا صالحًا تقدَّم لخطبة فتاة، ولم تَرَ منه هي ولا أهلها إلَّا كلَّ خير واستقامة، ثم رأت الفتاة رؤيا ظاهرها جيِّد في حقِّ هذا الشخص كأن تراه في المنام مبتسمًا، أو يقرأ القرآن الكريم، أو نحو ذلك.
فالرؤيا في هذه الحالة جاءت لتؤكِّد فقط على صلاح الشخص، ذلك الصلاح الذي تلمسه الفتاة وأهلها في التعامل معه في الوقت الذي رأت فيه الفتاة الرؤيا. إذن، فليس في الرؤيا هنا إصدار لحكم جديد على شخص مجهول، بل هي مجرَّد تأكيد لحكم قديم على شخص معروف.
وكذلك بالمِثل: نفترض أنَّ فتاة لها أخ فاسد مشهور بالفساد، وأنَّها قد رأته في الرؤيا في حالة سيـِّئة، كأن يكون عابسًا، أو يشرب الخمر مثلًا، فكذلك الرؤيا في هذه الحالة تكون تأكيدًا على فساد شخص مشهور بالفساد، وليست إصدارًا لحكم جديد على شخص مجهول.
2. الرؤى مرشد إلى أدلَّة واقعيَّة للحكم على الناس بالصلاح أو الفساد: في هذه الحالة، تأتي الرؤى لإرشاد المسلم إلى دليل واقعيٍّ يستطيع من خلاله الحكم على صلاح أو فساد شخص لا يستطيع (أي الرائي المسلم) الحكم عليه، إمَّا لأنَّه لا يعرفه جيِّدًا، أو أنَّ لديه شكوكًا حوله لم تصل إلى درجة التأكُّد.
فعلى سبيل المثال: نفترض أنَّ رجلًا تقدَّم إلى أهل فتاة يطلبها للزواج، إلَّا أنَّ هذا الرجل غير معروف للأهل أو للفتاة بشكل جيِّد، ولم يتعاملوا معه إلَّا قليلًا، ولا يظهر منه لهم إلَّا الخير والصلاح بحسب اعتقادهم. ولكنَّ الله (تعالى) – الذي يعلم السرَّ وأخفى – يعلم أنَّ هذا الشخص فاسد، وأنـَّه يكذب على هؤلاء الناس، فيمكن في هذه الحالة أن ترى الفتاة رؤيا معيـَّنة تنبِّهها إلى فساد هذا الشخص بإرشادها إلى دليل في اليقظة يمكن من خلاله أن تتأكَّد من فساده.
وهذا الدليل الذي يمكن للرؤيا أن ترشد الفتاة إليه قد يكون – على سبيل المثال – كلمة معيَّنة قالها هذا الشخص في الواقع، أو موقف صدر منه ويكون فيه الدليل على فساده، إلَّا أنَّ الفتاة أو أهلها لم ينتبهوا لهذه الكلمة أو هذا الموقف كثيرًا، أو اعتبروه شيئًا عابرًا، أو احتاروا في فهم ما قد يدلُّ عليه، فتأتي الرؤيا لتنبيه الفتاة وأهلها إلى أنَّ في هذه الكلمة أو هذا الموقف دليل على فساد هذا الشخص، وقد تكشف لهم الرؤيا أيضًا وجه الفساد فيه، والذي لم ينتبهوا إليه جيِّدًا عندما حدث، وبالتالي تكون هذه الكلمة أو هذا الموقف هو الدليل الواقعيُّ للحكم على فساد الشخص، وتكون الرؤيا مجرَّد مرشد فقط إلى هذا الدليل، وليست دليلًا في ذاتها.
وبالمثل، فقد تأتي هذه النوعيـَّة من الرؤى لإعطاء طرف خيط معيَّن للفتاة أو الأهل يمكنهم من خلال تتبُّعه أن يكتشفوا حقيقة الشخص، كأن ترشدهم الرؤيا للسؤال عنه في مكان معيَّن، أو لدى شخص معيَّن، فيستطيعون من خلال ذلك اكتشاف حقيقته الخفيَّة، ويكون هذا هو الدليل الواقعيَّ للحكم عليه، بينما تكون الرؤيا مجرَّد مرشد فقط إلى هذا الدليل.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: رؤيا قد يراها قاضٍ ترشده إلى دليل معيَّن لم ينتبه له، أو خيط معيَّن يسير وراءه لإثبات براءة أحد المتَّهمين.
وأخيرًا، نقول أنـَّه ينبغي للمسلم – وخاصَّةً الصالح – أن يعلم أنَّ الشيطان يسعى دائمًا لإفساد حياته وتحطيمها، وقد يفعل الشيطان ذلك من خلال رؤى سوء يريها للمسلم.
وأعرف واحدًا من الصالحين كانت له زوجة صالحة تحبُّة ويحبُّها، واجتمعا معًا على حبِّ الله (تعالى) وطاعته، ولم يظهر له منها إلَّا كلُّ خير وإخلاص، فرأى يومًا في المنام أنَّها تخونه مع شخص آخر، في الوقت الذي لم يظهر له من المرأة إلَّا كلُّ وفاء، ولولا أنَّ الله (تعالى) قد أنار بصيرة هذا الشخص، وألهمه عِلمًا وحِكمة، لأفسدت هذه الرؤيا حياته الزوجيـَّة، ولكنَّ ذلك لم يحدث بفضل الله (تعالى)، وبرحمته، وبكرمه (سبحانه).
وينبغي على المسلم أيضًا أن يعلم مسألة أخرى تجعله أكثر احتراسًا وتريُّثًا قبل إصدار الأحكام على الناس اعتمادًا فقط على الرؤى، وهي أنـَّه في بعض الرؤى قد يظهر الصالحون في هيئة سيِّئة للدلالة على معنى معيَّن لا علاقة له بالحكم عليهم صلاحًا أو فسادًا، بينما في بعض الرؤى الأخرى قد يظهر الفاسدون في هيئة حسنة للدلالة على معنى معيَّن لا علاقة له بالحكم عليهم فسادًا أو صلاحًا.
فمثلًا: جاء عن الصحابيِّ عبد الله بن عبـَّاس (رضي الله عنهما) أنـَّه قال: «رأيت النبيَّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) فيما يرى النائم بنصف النهار وهو قائم أشعث، أغبر، بيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأمِّي يا رسول الله، ما هذا؟» قال: «هذا دم الحسين وأصحابه، لم أزل ألتقطه منذ اليوم»، «فأحصينا ذلك اليوم، فوجدوه قتل في ذلك اليوم» (أثر صحيح – رواه أحمد).
ففي هذه الرؤيا ظهر النبيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) بهيئة لا تليق به، فهل تصلح هذه الهيئة في هذه الرؤيا للحكم على النبيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) حكماً لا يليق به؟!! هذا غير جائز بلا شكٍّ!! وإنَّما هذه الهيئة التي ظهر بها (صلَّى الله عليه وسلَّم) في الرؤيا هي مجرَّد رمز للدلالة على شناعة وقبح حادثة مقتل الحسين (رضي الله عنه) وأصحابه.
وكذلك بالمثل، يمكن أن يرى النائم في الرؤيا شخصًا مشهورًا بسوء الأخلاق بين الناس في هيئة حسنة، فهل هذه الرؤيا تزكية له من الله (تعالى)؟ بالتأكيد لا! وإنَّما قد يكون هذا الشخص في هذه الرؤيا رمزًا لشيء لا علاقة له بأخلاقه، كأن يكون رمزًا لاسمه، أو لوظيفته، أو لشركته، أو لبلده، أو لضخامة جسمه…إلخ.
ومن أمثلة ذلك: ما روي عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم)، أنـَّه قال: «رأيت لأبي جهل عَذْقًا (أي نخلة) في الجنَّة»، فلما أسلم عكرمة بن أبي جهل، قال: «يا أُمَّ سَلَمة! هذا هو». (ضعَّفَه الذهبيُّ – المُستدرك)
فهل يمكن أن يُفهم من هذه الرؤيا أنَّ فيها تزكية لأبي جهل، وهو من ألدِّ أعداء الإسلام؟! بالطبع لا، وإنَّما للرؤيا تأويل آخر، وهو أن هذه النخلة رمز لابنه الصحابيِّ عكرمة (رضي الله عنه).
وهكذا، لا ينبغي إصدار الأحكام على الناس بالصلاح أو الفساد دون التعامل معهم، أو دون أن يظهر لنا منهم ما يدلُّ على أحوالهم فعلًا.
اللَّهم إنا نسألك حبَّك، وحبَّ من ينفعنا حبُّه عندك، ونعوذ بالله (تعالى) من المنافقين، ومن شرار الخلق.


من القصص التراثيـَّة الجميلة التي تُحكى في مسألة الحذر من استخدام الرؤى في الحكم على الناس: أنَّ شَريك بن عبد الله القاضى دخل يومًا على [الخليفة] المهديِّ، فلمَّا رآه قال: «عليَّ بالسيف والنِّطع» (يريد الخليفة أن يقتله). قال: «ولِمَ يا أمير المؤمنين؟». قال: «رأيت في منامى كأنـَّك تطأ بساطى وأنت معرضٌ عنـِّي، فقصصت رؤياى على من عبَّرها، فقال لي: «يُظهِر لك طاعة، ويُضمِر معصية». فقال له شريك: «والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل (عليه السلام)، ولا أنَّ مُعبِّرك بيوسف الصدِّيق (عليه السلام)، فبالأحلام الكاذبة تُضرَب أعناق المؤمنين؟!»، فاستحيى المهديُّ، وقال: «اخرج عنِّي»، ثم صرفه وأبعده. (الاعتصام)

والله (تعالى) أعلم.

نُشر بواسطة Jamal Hussein

Dream interpretation researcher and analyst

لا توجد آراء بشأن "هل تصلح الرؤى كدليل للحكم على الأشخاص بالصلاح أو الفساد؟"

إضافة تعليق

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: