«خطُّ الأحلام! اتَّصل على الرقم الفلانيِّ، واسأل عن تفسير حلمك»، «فسِّر أحلامك، وأرِح بالك»، «اتَّصل على الخطِّ الساخن للشيخ فلان، واترك حلمك، وسوف يتمُّ تفسيره خلال 48 ساعة».
بهذه الكلمات وأمثالها تخرج علينا وسائل الإعلام في الوقت الحاليِّ، لتُعلِن عن ظاهرة جديدة لم تكن موجودة بهذه القوَّة وهذا التأثير في عصور سابقة، ألا وهي ظاهرة إقبال المسلمين المتزايد على الرؤى وتفسيرها، واهتمامهم الكبير بها. تلك الظاهرة التي أصبح المسلمون ينقسمون فيها إلى فئتين: فئة المهتمِّين بالرؤى وتفسيرها بشكل مبالغ فيه، الباحثين عن مفسري الرؤى في كلِّ مكان، المشغولين بالرؤى في الصباح والمساء؛ وفئة أخرى على النقيض منهم يُهوِّنون من شأن الرؤى وتفسيرها، بل ويهاجمون من يهتمُّ بها، أو يتحدَّث عنها.
وقد يتسائل البعض: هل الاهتمام الكبير بالرؤى وتفسيرها خطيئة؟ ألم يكن النبيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) يهتمُّ بالرؤى، ويسألُ أصحابه (رضوان الله عليهم) بعد صلاة الفجر إن كان أحد منهم قد رأى رؤيا ليفسِّرها له؟ ألم تُذكر في القرآن الكريم والسُّنَّة النبويـَّة الشريفة عشرات الرؤى وتفسيرها؟ ألم يمنح الإسلام اهتمامًا كبيرًا للرؤى، فجاء في تعاليمه أنَّ كثيرًا منها يكون من الله (تعالى)، وأنَّ لها دلالات ومعاني قد تشير إلى أحداث مستقبليـَّة؟ ألم يخبرنا النبيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنها من أجزاء النبوَّة؟ وأنها من المبشِّرات الباقيات بعد انتهاء عصور الأنبياء؟ فما العيب إذن في الاهتمام بها؟ وما الضرر في ذلك؟
والإجابة على هذا السؤال بسيطة: وهي أنَّ الاهتمام بالرؤى لا يوصف دائمًـا بأنـَّه خير، ولا يوصف دائمًـا بأنـَّه شرٌّ، ولكن يتوقَّف ذلك على الدوافع التي تؤدِّي بالمسلم إلى هذا الاهتمام، والنتائج التي يصل إليها بسبب هذا الاهتمام، أو بمعنى آخر الدور الذي تقوم به الرؤى في تطوير دين المسلم ودنياه كما يحبُّ الله (تعالى) ويرضى.
ولا شكَّ أنَّ اهتمام الجيل الأوَّل من المسلمين بالرؤى وتفسيرها كان بدافع دينيٍّ محض، فكان حبُّ الله (تعالى)، والاشتياق إلى الجنَّة، والخوف من النار يدفعهم إلى تلقِّي الرسائل الإلهيـَّة في رؤى كلٍّ منهم بالكثير من الاهتمام، وفي الوقت نفسه، كانت الرؤى تبشِّرهم ببعض الأمور في معيشتهم من أجل أن تقوِّي صبرهم وإيمانهم عند البلاء، وتزيد من شكرهم لله (تعالى) عند النعمة، أو قد تأتي الرؤى لتبيِّن لهم بعض أمور الخير؛ لتشجِّعهم على القيام بها، أو الاستمرار فيها، أو قد يروا في المنام ما يُحذِّرهم من بعض الشرور حتَّى يجتنبوها.
وهكذا، كان الاهتمام بالرؤى عند هذا الجيل المبارك اهتمامًا صحيًّا، يقوِّم وضع المسلم في الحياة، ويسير به في الطريق الصحيح الذي شرعه الله (تعالى) له، ويسمو به إلى أعظم الخير والبركات في دنياه وآخرته، ويجعل منه مسلمًـا ربـَّانيًّـا يعبد الله (تعالى) كأنـَّه يراه.
ومن الملاحظ أنَّ ازدياد التديُّن بين المسلمين في العصر الحاليِّ عن عصور سابقة كان دافعًا قويًّا لازدياد اهتمامهم بالرؤى وتفسيرها، فكما ازداد الفساد والانحطاط بين المسلمين، ازداد كذلك الالتزام الدينيُّ بينهم، وبالتالي تنامى اهتمام المتديِّنين بالرؤى وتفسيرها على سبيل الاقتداء بالجيل الأوَّل من المسلمين، والالتزام بنهجهم في التماس كلِّ ما يؤدِّي إلى تقوية وتطوير علاقتهم بالله (عزَّ وجلَّ).
وعلى الرغم ممَّا سبق، فلم يكن التديُّن وحده هو الدافع عند المسلمين للاهتمام الكبير بهذه الظاهرة في هذا العصر، فكذلك كان من ضمن أسباب اهتمامهم بالرؤى وتفسيرها تضخُّم المشاكل، والمعاناة، والإحباط، والبلبلة الفكرية بين المسلمين على كلِّ المستويات بدرجات كبيرة جدًّا، بالتزامن مع حالة من العجز الشديد عن التعامل معها، ممَّا كان له أثر كبير في مزيد من لجوء المسلمين إلى الرؤى وتفسيرها طلبًا للمخرج والخلاص ممَّا لا يوجد منه مناص، وبحثًا عن البشرى من الله (عزَّ وجلَّ) في عالم مليء بكلِّ ما يُسيء.
وقد يكون هذا الدافع – السابق ذكره – إلى الاهتمام بالرؤى وتفسيرها مقبولًا، بل ومطلوبًا، إذا كان المسلم يرغب في الخلاص من هموم الدنيا حتَّى لا تشغله عن هموم الآخرة، وإذا كان يريد إصلاح دنياه بهدف إصلاح آخرته على أساس أنَّ الدنيا مزرعة الآخرة. أمَّا إذا كان المسلم يبحث عن الخلاص من هموم الدنيا بسبب حبِّ الدنيا ونسيان الآخرة، فهو مهموم لفراق حبيبته الدنيا له، ولا هدف له إلَّا أن تعود إليه حتَّى يأنس بها، وينهل من ملذَّاتها دون أيِّ هدف وراء ذلك، فهذا هو الانحراف عن الهدف الرئيس في حياة المسلم، وهو الآخرة، وهذا هو الخروج بالرؤى عن هدفها الحقيقي، وهو تقريب المسلم إلى الله (تعالى)، وإلى الجنَّة، وإبعاده عن طريق الشيطان، وعن النار.
وكذلك، فهناك من المسلمين من يعيش لهدف دنيويٍّ معين، ويريد أن تخبره الرؤى بأنـَّه على الطريق الصحيح لتحقيق هذا الهدف، فهذا لا يشغله في الحياة إلَّا امتحان الماجستير فقط، ولا هدف لتفسير الرؤى عنده إلَّا طمأنته بشأن الامتحان، وذاك لا يريد إلَّا أن يُتمِّم صفقة تجاريـَّة معيَّنة، ولا يريد من الرؤى إلَّا أن تكون دراسة جدوى لهذه الصفقة، فإذا تمَّ له ما يريد، انتهت الرؤى من حياته بعد أن أدَّت المهمَّة المطلوبة، وهذه فتاة تريد أن تتزوَّج، ولا ترجو من الرؤى إلَّا أن تكون بشرى لها بعريس، فإذا ما تزوجَّت، نست الرؤى وأيـَّام الرؤى. ولا شكَّ أنَّ في هذه الحالات وأمثالها، لا يكون هذا الدافع في الاهتمام بالرؤى مقبولًا، بل وقد يكون خطيرًا جدًّا؛ لأنـَّه في هذه الحالة يكون نوعًا من التكريس لفكرة الركوض خلف الدنيا، ونسيان الآخرة.
فعلى المسلم الذي يهتمُّ بالرؤى بسبب مشاكل حياتيـَّة أو رغبات دنيويـَّة أن يراجع دوافعه وأهدافه من وراء هذا الاهتمام حتَّى لا يجد نفسه قد انغمس في الدنيا غمسة أبعدته عن الله (تعالى)، وعن رضوانه (عزَّ وجلَّ)، وعن السعي إلى الآخرة، وبالتالي يكون الاهتمام بالرؤى نوعًا من الانحراف في حياته.
إذا كان الخلاص من الهموم الشخصيـَّة، أو الرغبة في الحصول على بعض المكاسب الدنيويـَّة دوافع للاهتمام بالرؤى، فقد يكون ذلك محلَّ نقاش وجدال، وموضع قبول أحيانًا، ورفض أحيانًا، ولكن هناك من الدوافع ما هو أسوأ وأخطر من ذلك، ومن ضمن هذه الدوافع تأثير البيئة القوميـَّة على المسلم، فهناك بعض المجتمعات توارث فيها الناس تعظيم الرؤى، والاهتمام بها، والاعتقاد في أهمِّيَّتها، والبحث عن معانيها، دون أن يكون لذلك أيُّ ارتباط بالتديُّن أو بالآخرة، فتجد الاهتمام بالرؤى منتشرًا حتَّى بين المسلمين غير المتديِّنين. والهدف من تفسير الرؤى هنا هو الرؤى في ذاتها، وكأنـَّه نوع من التقليد أو العادة فقط دون أيِّ ارتباط بعقيدة ولا هدف معيَّن، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم.
وعلى الرغم من قبح هذا الدافع – السابق ذكره – للاهتمام بالرؤى وتفسيرها، إلَّا أنـَّه ربَّما ليس الدافع الأسوأ، بل هناك دوافع أخرى للاهتمام بالرؤى قد لا تقلُّ سوءًا، بل وقد تزيد، ومنها التفاؤل والتشاؤم. فهناك من المسلمين من يهتمُّ بالرؤى على طريقة بعض غير المسلمين الذين يتشاءمون من الرقم 13، أو القطَّة السوداء، أو يتفاءلون بالأبراج، والطالع، وقراءة الكفِّ والفنجان، وأمثال هذه الخرافات التي لا يرضى عنها الله (تعالى)، ولا يقبلها العقل السليم.
فربَّما تجد العديد من المسلمين يسيرون في هذا الطريق من الخرافة، فيكون اهتمامهم بالرؤى وتفسيرها كاهتمام غير المسلمين بالأبراج وباب «حظَّك اليوم» المنتشر في العديد من الصحف. فالرؤى وتفسيرها بالنسبة لهؤلاء نوع من رفع الحالة المعنويَّة بهدف استقبال الحياة ببهجة وإشراق وثقة في النفس ليس إلَّا، ولا علاقة لهذا الاهتمام بعقيدة ولا شريعة. نسأل الله (تعالى) لنا ولهم الهداية.
واستمرارًا لمسلسل الدوافع المنحرفة والفاسدة للاهتمام بالرؤى وتفسيرها، نجد بعض المسلمين يهتمُّ بها بدافع من التسلية، أو ملئ الفراغ، أو الاهتمام بالظواهر الغامضة والعجيبة. وقد تجد بعضهم يهتمُّ بها تأثُّرًا بفيلم أو قصَّة أجنبيـَّة رأى فيها البطل رؤيا فتحقَّقت له في نهاية الفيلم أو القصَّة.
وفي مقابل كلِّ هذه الدوافع السيِّئة، نجد وسائل الإعلام قد زادت المشكلة سوءًا، فصدَّرت عددًا من المنحرفين من معدومي العلم والضمير ممَّن يدَّعون قدرتهم على تفسير الرؤى – بدون تعميم مطلق – فصنعت منهم نجومًا تتاجر بهم، وتزيد من ضلال المسلمين وانحرافهم في هذه المسألة الخطيرة. وفي الوقت الذي نجد الدجَّالين ووسائل الإعلام المغرضة قد ملأت الفراغ، نجد بعض علماء المسلمين يهاجمون تفسير الرؤى، وينكرون أن يكون لتفسيرها علم، ويقلِّلون من شأن المسألة وأهمِّيـَّتها بدلًا من تشجيع البحث العلميِّ في هذا الموضوع، والأخذ بيَدِ من يحاول بصدق خدمة المسلمين فيه بهدف محاربة الجهل والفوضى بالعلم الصحيح.
وهكذا تتعقَّد المشكلة وتتعدَّد أطرافها وتتشعَّب بشكل يُصعِّب حلَّها.
وأخيرًا، وبعد أن استعرضنا باختصار ظاهرة انتشار الطلب على تفسير الرؤى بين المسلمين، يمكن القول بأنَّ هذه الظاهرة قد تكون خيرًا في حياة المسلمين إذا ما كانت داعمًـا ومعينًا لهم على الخير في دنياهم وآخرتهم، وهي خير ما دامت ترتبط عند المسلم بعقيدته وعلاقته بالله (تعالى)، فتقوِّيها.
أمَّا إذا ارتبطت الرؤى وتفسيرها عند المسلمين بدوافع لا علاقة لها بالدين ولا بالآخرة، فإنَّ الاهتمام بها هنا يكون ظاهرة مَرَضيَّة في حياة المسلمين، ولن يؤدِّي هذا الاهتمام بالرؤى حينئذٍ إلَّا إلى مزيد من الانحطاط في حياتهم.
أسأل الله (تعالى) أن يرينا الحقَّ حقًّا، وأن يرزقنا اتِّباعه، وأن يرينا الباطل باطلًا، وأن يرزقنا اجتنابه. آمين
والله وليُّ التوفيق.