هناك خمسة أقوال في هذه المسألة:
1. يتحقَّق التفسير الأوَّل للرؤيا مطلقًا، ولا يتحقَّق أيُّ تفسير آخر بعده.
ويُقصَد بذلك أنـَّه بمجرَّد أن يقوم شخص بتفسير الرؤيا على معنى معيَّن بصرف النظر عن كون هذا التفسير مُحتملًا أو غير مُحتمل، أو كونه صوابًا أو خطأ، فإنَّ هذا التفسير يثبُت على الرؤيا، ويكون هو المعنى المتحقِّق لها.
وقد استند من قالوا بهذا الكلام إلى ظاهر معنى حديث النبيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم): «إنَّ الرؤيا تقع على ما تُعبَّر، ومَثَلُ ذلك مثل رجل رفع رِجلَيه فهو ينتظر متى يضعها، فإذا رأى أحدكم رؤيا، فلا يُحَدِّث بها إلَّا ناصحًا أو عالمـًا» (حديث صحيح – صحيح الجامع).
وقال بعض أنصار هذا القول بأنَّ القَدَر يسوق للرؤيا من يفسِّرها أول تفسير، فتـتحقَّق عليه.
2. يتحقَّق التفسير الأوَّل للرؤيا بشرط أن يكون مُحتملًا، وإلَّا فلا.
ويُقصَد بذلك أنَّ التفسير الأوَّل للرؤيا يتحقَّق يقينًا إذا كان ممَّا تحتمله رموزها، أي التفسير الاحتماليُّ الذي يقوم على قاعدة صحيحة من قواعد تفسير الرؤى. أمَّا إذا كان التفسير خطأ، أو غير مُحتمل، أو لا يستند إلى أيَّة قاعدة من القواعد الصحيحة لتفسير الرؤى، فإنـَّه لا يتحقَّق، ولكن يتحقَّق أوَّل تفسير مُحتمل بعده، فإن لم يكن الذي بعده محتملًا، تحقَّق الذي بعده من التفسير المُحتمل، وهكذا.
وقد استند من قالوا بهذا الكلام إلى قول النبيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) لأبي بكر الصدِّيق (رضي الله [تعالى] عنه) عندما فسَّر رؤيا في حضرة النبيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم): «أصبت بعضًا، وأخطأت بعضًا» (مُتَّفق عليه)، فاستنتجوا من ذلك أنَّ التفسير الخطأ لا يتحقَّق، ولو كان أوَّل تفسير.
وقد حاول أصحاب هذا القول بذلك تقييد وتصحيح الفهم الواسع جدًّا للمسألة عند أصحاب الحديث المُستَنَد إليه في القول الأوَّل، وذلك بالحديث المُستند إليه في القول الثاني.
فحديث أصحاب القول الأوَّل صحيح عند أصحاب هذا القول، ولكن قيَّدوه وحدَّدوا معناه بالحديث الثاني، فاستثنوا التفسير الخطأ أو غير المُحتمل من التحقُّق، ولو كان هو التفسير الأوَّل للرؤيا.
وقد كان الشيخ مُحمَّد ناصر الدين الألبانيُّ (رحمة الله [تعالى] عليه) من أنصار هذا القول، فجاء عنه في كتاب السلسلة الصحيحة: «…والحديث صريح بأنَّ الرؤيا تقع على مثل ما تُعبَّر، ولذلك أرشدنا رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) إلى ألَّا نقصَّها إلَّا على ناصح أو عالم؛ لأنَّ المفروض فيهما أن يختارا أحسن المعاني في تأويلها فتقع على وفق ذلك، لكن ممَّا لا ريب فيه أنَّ ذلك مُقيَّد بما إذا كان التعبير ممَّا تحتمله الرؤيا و لو على وجه، و ليس خطأ محضًا، وإلَّا فلا تأثير له حينئذ. والله أعلم» ا.هـ
ومع ذلك، فهناك إشكال في القولين الأوَّل والثاني، وهو أنـَّه إذا ما افترضنا أنَّ أيًّا منهما صحيح، فبناء على ذلك، يستطيع الإنسان أن يعرف الغيب بشكل يقينيٍّ لا شكَّ فيه من خلال الرؤيا بمجرَّد أن يتمَّ تفسيرها أوَّل تفسير أو أوَّل تفسير محتمل، وهذا غير ممكن؛ لأنَّ الغيب اليقينيَّ لا يعلمه إلَّا الله (عزَّ وجلَّ) وحده لا شريك له (سبحانه وتعالى) (تناولنا هذه المسألة تفصيلًا في سؤال سابق، فليرجع إليها من أراد الاستزادة).
3. تتحقَّق الرؤيا على الخير أو الشرِّ في أوَّل تفسير مُحتمل دون شرط أن تتحقَّق تفاصيل هذا التفسير الأوَّل.
ويُقصَد بذلك أنَّ الرؤيا إذا فُسِّرت أوَّل مرَّة على معنى خير مُحتمل تحقَّقت على الخير، ولكن على أيِّ خير محتمل، وليس بالضرورة الخير الذي ذكره المفسِّر في التفسير الأول.
فمثلًا: إذا فسَّر مفسِّر رؤيا تفسيرًا أوَّل على أنـَّها بشرى بزواج، فهذا أوَّل تفسير للرؤيا على احتمال خير. وبالتالي تقع الرؤيا على الخير عمومًا، ولكن ليس بالضرورة أن يكون هذا الخير زواجًا كما قال المفسِّر الأوَّل، فقد يكون زواجًا كما قال، أو قد يكون خيرًا آخر محتملًا أيضًا.
وبالمثل، إذا فسَّر مفسِّر رؤيا تفسيرًا أوَّل على معنى شرٍّ محتمل، كإنذار بمرض خطير مثلًا (عياذًا بالله تعالى)، فهذا أوَّل تفسير للرؤيا على احتمال شرٍّ. وبالتالي تتحقَّق الرؤيا على الشرِّ، ولكن ليس بالضرورة أن يكون هذا الشرُّ مرضًا خطيرًا كما قال المفسِّر الأوَّل، فقد يكون كذلك أو قد يكون أيَّ شرٍّ آخر.
ويستند هذا القول إلى حديث النبيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم): «إذا عبرتم للمسلم الرؤيا، فاعبروها على خير فإنَّ الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها» (حديث حسن – فتح الباري).
وكذلك حديث النبيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم): «رأيت في المنام أنِّي أهاجر من مكَّة إلى أرض بها نخل، فذهب وَهَلِي إلى أنـَّها اليمامة أو هَجَر، فإذا هي المدينة يثرب» (مُتَّفق عليه).
فذهب أصحاب هذا القول إلى أنَّ الرؤيا إذا فُسِّرت على خير، تحقَّقت على خير، وإذا فسِّرت على شرٍّ، تحقَّقت على شرٍّ، وذلك استنادًا إلى نصِّ الحديث السابق الأوَّل.
ومع ذلك، فليس بالضرورة أن تتحقَّق الرؤيا على احتمال الخير (أو الشرِّ) الذي ذكره المفسِّر الأوَّل، وذلك استنادًا إلى نصِّ الحديث السابق الثاني، حيث فُسِّرت الرؤيا تفسيرًا أوَّل مُحتملًا على الخير (اليمامة أو هَجَر)، فوقعت على الخير، ولكن على خير آخر مختلف (المدينة) ممَّا يحتمله تفسير الرؤيا غير الاحتمالين المذكورين في التفسير الأوَّل.
وهذا القول هو محاولة لتلافي الإشكال في القولين الأوَّل والثاني. فهو من جهة يثبت وقوع التفسير الأوَّل للرؤيا، ومن جهة أخرى ينفي أن تكون الرؤيا مصدرًا للعلم بالغيب اليقينيِّ، فيؤكِّد على دخول الظنِّ والاحتمال في تفسيرها.
وهذا القول أقوى وأفضل من سابقيه.
4. للرؤيا تفسير واحد فقط هو الذي يتحقَّق، وليس بالضرورة أن يكون أوَّل تفسير، ولا حتَّى أوَّل تفسير محتمل.
لهذا القول شعبيَّة كبيرة بين مفسِّري الرؤى. وقد استند من قال به إلى حديث النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم): «رأيت في المنام أنِّي أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وَهَلِي إلى أنَّها اليمامة أو هَجَر، فإذا هي المدينة يثرب» (مُتَّفق عليه).
فقال أصحاب هذا القول أنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) قد فسَّر هذه الرؤيا تفسيرًا أوَّل مُحتملًا (اليمامة أو هَجَر). ومع ذلك، فلم يشأ لها الله (تعالى) أن تتحقَّق عليه. وبالتالي فلكلِّ رؤيا تفسير واحد صحيح متحقِّق، وليس بالضرورة أن يكون أوَّل تفسير، ولا حتَّى أوَّل تفسير مُحتمل.
وتظهر هنا محاولة أصحاب هذا القول لفهم الحديث بشكل مختلف عن فهم أصحاب القول السابق له.
وهذا القول هو من الأقوال القويَّة المعتبرة، تؤيِّد صحَّته وأهمِّيَّته التجربة والخبرة لكثير من مفسِّري الرؤى.
5. جميع الأقوال السابقة تستند إلى أدلَّة صحيحة. وبالتالي فكلُّها مُحتملة الصحَّة. وعلى المسلم أن يحسن الظنَّ بالله (تعالى)، وألَّا يَقُصَّ رؤياه إلَّا على عالم أو حبيب.
ويُقصَد بذلك أنَّ جميع الأقوال السابقة يُحتمل أن يصحَّ بعضها أحيانًا، ويُحتمل أن يصحَّ البعض الآخر أحيانًا أخرى.
فقد يتحقَّق أوَّل تفسير للرؤيا أحيانًا، وقد لا يتحقَّق في أحيانٍ أخرى. وقد تتحقَّق الرؤيا على أوَّل احتمال خير أو شرٍّ أحيانًا، وقد يكون لها تفسير واحد صحيح تتحقَّق عليه في أحيانٍ أخرى.
وواجب المسلم دائمًا في التعامل مع الرؤى أن يحسن الظنَّ بالله (تعالى)، وأن يعلم أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) لا يريد لعباده المسلمين الموحِّدين إلا الخير في الدنيا والآخرة، وأن يعلم كذلك أنَّ المسلم الصالح يتقلَّب دائمًا من خير إلى أفضل برحمة الله (جلَّ جلاله)، وكرمه، وتوفيقه (سبحانه). فلا ينبغي لرؤيا أن تُغيِّر هذا المعتقد أبدًا عند المسلم الصالح مهما كان ظاهرها سيِّئًا.
وينبغي للمسلم أن يدرك أنَّ رؤياه إن لم تتحقَّق على الخير الذي يتوقَّعه، فستـتحقَّق بفضل الله (تعالى) وكرمه (سبحانه) على خير أفضل ممَّا يتوقَّعه. وهذا هو شأن المولى الكريم (سبحانه وتعالى) مع عباده المسلمين الموحِّدين الصالحين.
وكذلك ينبغي للمسلم – بعد أن أدرك ما قد يكون لتفسير الرؤى من خطورة – أن يحرص على ألَّا يقصَّ رؤياه إلَّا على عالِم أو حبيب كما علَّمنا النبيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم).
ولعلَّ هذا هو أفضل وأشمل ما قيل في هذه المسألة، ولعلَّ هذا القول يكون حلًّا لإشكالات كثيرة في تفسير الرؤى لم تستطع الأقوال الأخرى حلَّها.
احتدم الجدال بين الذين قالوا بأنَّ التفسير الأوَّل للرؤيا هو الذي يتحقَّق يقينًا وبين الذين قالوا أنـَّه لا يتحقَّق بالضرورة، فنذكر هنا جانبًا آخر منه.
فبالإضافة إلى الحجج المذكورة في إجابة السؤال، فقد احتجَّ فريق القول الأوَّل بقول الله (تعالى) على لسان يوسف (عليه السلام) عندما فسَّر الرؤيـيين لصاحبيه في السجن: ﴿قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ (يوسف:41)، أي أنَّ تفسير الرؤيـيين قد أصبح واقعًا مُتحقِّقًا لا محالة بمجرَّد أنَّ فسَّرهما لهما يوسف (عليه السلام).
بينما احتجَّ فريق القول الثاني بما ذهب إليه بعض المفسرين لقول الله (تعالى): ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ﴾ (يوسف:42) – بأنَّ كلمة “ظنَّ” في الآية الكريمة تشير إلى أنَّ تفسير الرؤيا هو عمليَّة تخضع للاحتمال، وأنَّ وقوع تفسيرها هو مسألة ظنيَّة، وليست يقينيَّة.
فَرَدَّ الفريق الأوَّل عليهم بأنَّ كلمة “ظنَّ” في الآية السابقة إنَّما تعني عَلِم وأيقن كما أشار إلى ذلك عدد من المفسِّرين، فهو (عليه السلام) قد أيقن أنَّ التفسير واقع، وليس ظنًّا.
فَرَدَّ الفريق الثاني عليهم بأنَّ المقصود بقول الله (تعالى): ﴿قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ ليس بالضرورة يعني أنَّ تفسير الرؤيا واقع لا محالة، بل قد يكون فيه إشارة إلى انتهاء الكلام، أي كأنـَّه (عليه السلام) يريد أن يقول لهما: تمَّت الإجابة على سؤاليكما.
فَرَدَّ الفريق الأوَّل بأنـَّه قد جاء عن عبد الله بن مسعود (رضي الله [تعالى] عنه) أنـَّه قال: «الفتيان الذان أتيا يوسف (عليه الصلاة والسلام) في الرؤيا إنَّما كانا تكاذبا، فلمَّا أوَّل رؤياهما قالا: إنـَّا كنـَّا نلعب، قال يوسف: قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان» (أثر صحيح – رواه الحاكم في المستدرك).
وقد أورد بعض المفسِّرين هذا الكلام بلفظ آخر كما جاء في تفسير البغويِّ وغيره: «قال ابن مسعود: لمـَّا سمعا (أي الفتيان) قول يوسف، قالا: ما رأينا شيئًا، إنَّما كنَّا نلعب، قال يوسف: ﴿قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾، أي فُرغ من الأمر الذي عنه تسألان، ووجب حكم الله عليكما الذي أخبرتكما به، رأيتُما أم لم تَرَيا».
فردَّ الفريق الثاني أنـَّه حتَّى ولو كان هذا الأثر عن عبد الله بن مسعود (رضي الله [تعالى] عنه) صحيحًا، فلعلَّ يوسف (عليه السلام) أخبرهما بما سوف يقع لهما يقينًا بناء على وحيٍّ أوحاه الله (تعالى) إليه، وليس بناء على تفسير رؤيا فقط؛ لأنَّ الأنبياء لا يفتون الناس إلَّا بوحيٍّ من الله (تعالى).
والله (تعالى) أعلم بالصواب.
قام بإعادة تدوين هذه على مدونة تفسير الأحلام.
إعجابإعجاب