الأصل في الرؤيا الصادقة أنـَّها تكون رموزًا ذات تعبير يختلف عن ظاهرها؛ فهذا هو الغالب عليها. وبالتالي، ينبغي للمعبِّر أن يتعامل معها غالبًا على أنـَّها كذلك.
فمن رأى سيَّارة مثلًا في منامه، فالأصل أنَّ المقصود بها ليس أن تكون سيَّارة، بل هي مجرَّد رمز لمعنى آخر مختلف عنها؛ ومن رأى في منامه بيتًا، فالأصل أنَّ المقصود به ليس البيت، بل هو مجرَّد رمز يدلُّ على شيء آخر؛ ومن رأى في منامه أنـَّه يحجُّ، فالأصل أنَّ هذا رمز يدلُّ على معنى آخر غير الحجِّ؛ ومن رأى في منامه أنـَّه يصلِّي، فالأصل أنَّ الصلاة هنا تعني شيئًا آخر غير الصلاة؛ ومن رأى في منامه أنـَّه يركب طائرة، فالأصل أنَّ هذا رمز يدلُّ على شيء آخر غير ركوب الطائرة…وهكذا.
ولكن في بعض الأحوال القليلة، يتمُّ تعبير رمز الرؤيا على ظاهره؛ أي كما رآه الرائي، وليس على أنـَّه رمز يدلُّ على معنى آخر؛ فيكون تعبير رؤيا الذي رأى نفسه في المنام أنـَّه يحجُّ، أنـَّه سوف يحجُّ فعلًا؛ ويكون تعبير رؤيا الذي رأى نفسه يركب الطائرة، أنـَّه سوف يركب الطائرة فعلًا؛ ويكون تعبير رؤيا التي رأت نفسها تتزوَّج، أنـَّها ستتزوَّج فعلًا…وهكذا.
ويتمثَّل الضابط الأهمُّ الذي يحكم هذه المسألة في أحوال الرائي، فكلَّما كان ظاهر الرؤيا يمسُّ أمرًا حيويًّا، وخطيرًا، ومُهمًّا في حياة الرائي المسلم الصالح، وكلَّما كان في ظاهر الرؤيا حلٌّ وبشرى بنهاية شيء يعذِّبه ويؤلمه بشكل كبير، كان من الأولى بالمعبِّر تعبير الرؤيا على ظاهرها.
ومن أمثلة ذلك: نفترض أنَّ رجلًا مُسلِمًا واعظًا في مسجد أراد أن يذهب للحجِّ في سنة من السنين، فلم يستطع ذلك؛ لظروف خارجة عن إرادته. وقد أثَّرت فيه هذه المسألة تأثيرًا قويًّا، إلى درجة أنـَّه كان يتحدَّث عن الحجِّ فوق المنبر في خطبة الجمعة وهو يبكي. ونفترض أنَّ هذا الرجل قد رأى نفسه في المنام في وقت قريب من هذه الأحداث أنـَّه يحجُّ.
فالأولى بالمعبِّر هنا أن يعبِّر الرؤيا على أنـَّها بشرى له بالحجِّ مباشرة، ولا يتعامل مع الحجِّ في الرؤيا على أنَّ له دلالة رمزيـَّة مختلفة عن معناه الظاهر.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: نفترض أنَّ فتاة مسلمة صالحة تعدَّت السنَّ الطبيعيَّة للزواج، فأصبحت مسألة عدم زواجها من المنغِّصات الشديدة لها، ومن الهموم التي لا تفارقها ليلًا ولا نهارًا. ونفترض أنَّ هذه الفتاة قد رأت في منامها أنـَّها تتزوَّج؛ ففي هذه الحالة يتمُّ تعبير الرؤيا على ظاهرها؛ أي على أنـَّها بشرى بزواج فعلًا. ولا ينبغي التعامل مع الزواج في هذه الرؤيا على أنـَّه رمز لشيء آخر مختلف عنه.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: نفترض أنَّ مُسلِمًا صالحًا قد دخل السجن ظلمًا. فلا شكَّ أن هذا الحبس بالنسبة له هو الهمُّ الأكبر في حياته، والبلاء الأشدُّ الذي يؤلمه نفسيًّا وجسديًّا. ونفترض أنَّ هذا الشخص قد رأى نفسه في المنام أنـَّه قد خرج من السجن. فينبغي في هذه الحالة تعبير هذه الرؤيا على أنـَّها بشرى بخروجه من السجن فعلًا، فيتمُّ تعبيرها كما هي، دون اعتبار أنَّ الخروج من السجن هنا رمزًا لمعنى آخر.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: نفترض أنَّ مُسلِمًا صالحًا يُعاني معاناة شديدة في بلده، ويريد أن يسافر إلى بلد آخر، وتسبَّبت له هذه المشكلة في هموم شديدة لا تفارقه. وإذا افترضنا أنَّ هذا المسلم قد رأى في منامه أنـَّه سافر. فبالتالي، ينبغي أن يتمَّ تعبير الرؤيا هنا على ظاهرها؛ أي على أنَّ هذا الشخص سوف يسافر فعلًا بمشيئة الله.
ومن الجدير بالذكر أيضًا أنـَّه من الجيِّد أن يقوم المعبِّر بتعبير الرؤيا على ظاهرها إن كانت تدل على شيء يحدث للرائي في الواقع فعلًا، أو يُتوقَّع حدوثه بناء على مقدِّمات موجودة في الواقع.
ومن أمثلة ذلك: أن يرى مسلم صالح في منامه من يقول له: إنَّك مريض بالسِّحر. في حين أنَّ هذا الرائي المسلم يُعاني في الواقع من أعراض غير طبيعيَّة شبيهة بأعراض السحر منذ فترة دون أن يعرف لها سببًا واضحًا.
وقد يُعزى السبب وراء تعبير هذه النوعيَّة من الرؤى بهذا الشكل أنـَّه في بعض الأحيان تكون الهموم ضاغطة على المسلم لدرجة قد تصيب حياته كلَّها بالشلل. وبالتالي، تكون الرؤى أكثر وضوحًا، وأكثر ابتعادًا عن الرمزيَّة، وتكون أكثر قربًا من اليقين؛ فتكون لها من القوَّة ما يدفع عن المسلم الهمَّ الشديد والبلاء الضاغط، والذي قد لا تستطيع أن تدفعه عنه الرؤى التي تكون رموزًا، والتي هي أضعف بلا شكَّ من الرؤى المباشرة.
وتعبير الرؤيا على ظاهرها إن كان فيها بشارة وطمأنة للمسلم الصالح في حالات المشاكل، والبلاءات الشديدة، والهموم المؤلمة؛ هو من صميم حُسن الظنِّ بالله، والطمع في كرمه ورحمته؛ وهو من باب تعبير الرؤيا للمسلم على أفضل احتمال ممكن لها؛ وهو عين المطلوب شرعًا وعقلًا.
وقد يسأل هنا سائل: أليس من الخطأ تعبير الرؤيا على ظاهرها بهذا الشكل؛ على أساس أنَّ هذا ينفي عنها الظنَّ أو الاحتمال الذي هو من طبيعتها الأصليَّة التي لا تنفك عنها؟ نقول: لا ينفي تعبير الرؤيا على ظاهرها الظنَّ أو الاحتمال في التعبير، ولكنَّه يقوِّي هذا الاحتمال إلى درجة تكاد تُلامس اليقين مُلامسة، ولكنها لا تصل إليه؛ وذلك لأنَّ احتمال الرمزيَّة في الرؤيا لم ينتفِ تمامًا، ولكنَّه ضعف بشكل كبير. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
من المهم لمن يعبر الرؤيا على ظاهرها أيضًا أن يكون هذا الظاهر موافقًا للسُنن الكونية وأسباب الواقع؛ وأن يكون قابلًا للتحقق فعلًا. فلا يجوز مثلًا تعبير رؤيا أن الميت عاد للحياة أنه سيعود للحياة فعلًا، أو تعبير رؤيا الطيران بالجسد أنه سيطير فعلًا.
والله أعلم.
انقر هنا للاشتراك فورا في خدمة تعبير الرؤيا على الأصول الشرعية الإسلامية
قام بإعادة تدوين هذه على مدونة تفسير الأحلام.
إعجابإعجاب