لا يُعرف على وجه التحديد من هو أول من رأى رؤيا في منامه من البشر، ولا ما هي رؤياه. لكن بما أن رؤيا المنام هي تجربة طبيعية يمر بها كل إنسان، فالظاهر أن النبي آدم (عليه السلام) هو أول من رأى رؤيا. ومما قد يؤكد ذلك ويدعمه ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أن النبي ﷺ قال: «الرؤيا الحسنةُ من الرجلِ الصالحِ جزءٌ من ستةٍ وأربعينَ جزءًا من النبوةِ».
أما القرون الأولى، فقد انقسم البشر منذ بدء الخليقة إلى فئتين: مؤمنون يعبدون الله على اختلاف أنبيائهم وشرائعهم السماوية أو كفار على اختلاف ملل الكفر والضلال مصداقًا لقول الله (تعالى): ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾ [التغابن:2].
فأما الذين يعبدون الله على حق فهؤلاء تترجح الرؤيا في حقهم؛ فقد سُئل النبي محمد ﷺ عن معنى البشرى في قول الله (عز وجل): ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا﴾ [يونس:64]، فقال ﷺ: «هي الرؤيا الصالحةُ يراها المؤمنُ أو تُرى لهُ» (حديث حسن). وبالتالي فلا يمكن استبعاد أن الأمم الموحِّدة التي كانت تعبد الله وحده قبل الإسلام كانوا يرون رؤى في المنام تبشرهم بالخير.
أما حال الأمم الكافرة مع الرؤيا، فقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على أن بعض هذه الأمم كانوا يؤمنون بأن للرؤيا تعبيرًا، ويبحثون عنه، ويجعلون له قيمة كبيرة في حياتهم. فذكرت رؤيا ملك مصر الوثني في عصر النبي يوسف (عليه السلام) في قول الله (سبحانه): ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُون﴾[يوسف:43]؛ وكذلك رؤيا صاحبي يوسف (عليه السلام) في السجن الوثنيين في قول الله (تعالى): ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِين﴾ [يوسف:36].
أما عن رؤيا مشركي العرب قبل الإسلام، فقد جاء في الأثر ما يدل على اهتمامهم بالرؤيا وتعبيرها. فقد روي بإسناد صحيح عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) رؤيا لعبد المطلب عم النبي ﷺ جاء فيها: بينا عبدُ المطلبِ نائمٌ في الحِجرِ (حِجر إسماعيل أو الحَطِيم وهو بناء أو سور على شكل نصف دائرة في الجهة الشمالية من الكعبة) أُتِيَ فقيل له: احفُرْ بَرَّةً (أي النافعة كثيرة الخير)، فقال: وما بَرَّةُ؟ ثم ذهب عنه، حتى إذا كان الغدُ نام في مضجعِه ذلك فأُتِيَ فقيل له: احفِرِ المضنونةَ (أي النفيسة ذات القيمة الكبيرة)، قال: وما المضنونةُ؟ ثم ذهب عنه، حتى إذا كان الغدُ فنام في مضجعِه ذلك فأُتِيَ فقيل له: احفِرْ طَيْبَةَ (أي الجيِّدة -وعكسها الخبيثة -. وطيبة اسم من أسماء زمزم)، فقال: وما طَيْبَةُ؟ ثم ذهب عنه. فلما كان الغدُ عاد لمضجعِه فنام فيه فأُتِيَ فقيل له: احفِرْ زمزمَ (أي بئر زمزم)، فقال: وما زمزمُ؟ فقال: لا تُنزَفُ، ولا تُذمُّ (أي لا يجف ماؤها، ولا يذمها الناس لتلوث مائها أو نحوه). ثم نعت له موضعَها فقام يحفرُ حيثُ نُعِت.
وقد روي أيضًا بإسناد ضعيف رؤيا عن السيدة عاتكة بنت عبد المطلب عمَّة رسول الله ﷺ – ورضي الله عنها – أنها قد رأت في مكة قبل إسلامها رؤيا قبيل غزوة بدر، قالت: «رأيْتُ راكبًا أخَذ صخرةً مِن أبي قُبَيسٍ، فرمى بها للرُّكنِ، فتفلَّقَتِ الصَّخرةُ، فما بقِيَ دارٌ مِن دُورِ قُريشٍ إلَّا دخَلَتْها منها كِسْرَةٌ غيرَ دُورِ بني زُهْرَةَ» (أي أنها رأت فارسًا يركب على فرس، فأخذ صخرة من جبل أبي قبيس في مكة، ثم رمى بها إلى ركن الكعبة المشرفة، فتحطمت الصخرة إلى قطع تناثرت ودخلت إلى جميع بيوت قريش ما عدا قبيلة بني زهرة). وهذه الرؤيا كانت تنذر كفار قريش بالهزيمة في غزوة بدر، وقيل إن هذه الرؤيا منعت أبا جهل (أخوها) من المشاركة في هذه المعركة، كما لم تشارك قبيلة بني زهرة أيضًا.
وقد وردت بعض الآثار بأسانيد ضعيفة أشارت إلى اهتمام اليهود في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام بتعبير الرؤيا. ومن بينها ما روي عن رؤيا السيدة صفيَّة بنت حُيَّـي بن أخطب (أم المؤمنين رضي الله عنها) قبل إسلامها – وكانت يهودية – أنها قد رأت رؤيا أن قمرًا سقط في حجرها، فعرضتها على أبيها، فضرب وجهها ضربة أثرت فيه، وقال: «إنك لتمُدِّين عنقك أن تكوني عند ملك العرب!» (يقصد أن تعبير الرؤيا هو أنها تتمنى الزواج من محمد رسول الله ﷺ).
ففي مثل هذه الرؤى بعض دليل على اهتمام الأمم السابقة بتعبير الرؤيا رغم ما كان عليه بعضها من الكفر والفسوق والعصيان. وفيها دليل أيضًا على أن رؤاهم يمكن أن تتراوح في معانيها بين البشرى أو التحذير.
وتجدر هنا الإشارة إلى أنه قد وردت العديد من الرؤى في هذا السياق في كتب التراث الإسلامي، ولكن أكثرها لم يثبت بإسناد صحيح أو ضعيف. وبالتالي، نأينا بكتابنا هذا عن روايتها، ولها مقام آخر في الحديث عنها إن شاء الله (تعالى).
۞۞۞
أما الرؤيا في الإسلام فلها شرف عظيم. ومن ذلك أنها كانت أول البشرى لسيدنا وحبيبنا محمد ﷺ بأن يبعثه الله (تعالى) نبيًا ورسولًا للعالمين ببداية نزول الوحي في غار حراء. فكان ﷺ يرى رؤى مبشرة قبل البعثة لفترة معينة لم تثبت مدتها (وقيل ستة أشهر). فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن السيدة عائشة أم المؤمنين (رضي الله عنها) قالت: «أولُ مَا بُدِئَ به رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الوَحْيِ الرؤيا الصادِقَةُ في النَّوْمِ، فكان لا يَرَى رؤيا إلا جاءتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ…» وزيد في رواية الترمذي: (فمَكثَ على ذلِكَ ما شاءَ اللَّهُ أن يمْكُثَ).
ومعنى كفَلَق الصبح: أي كضوء الصباح في وضوحه مقارنة بظلام الليل. والمقصود هنا بأن الرؤيا «جاءت كفَلَق الصبح» احتمالان. الأول أنها كانت تتحقق في الواقع على ظاهرها كما رآها النبي ﷺ في المنام، والثاني أن الرؤيا نفسها كانت واضحة، وأن هذا علامة صدقها وتميُّزها عن الأحلام الكاذبة. وكلا الاحتمالين جائز، وقد يكون أحدهما أو كلاهما صحيح.
وما يظهر من الروايات أن النبي ﷺ كان يحث الصحابة (رضي الله عنهم) على سؤاله ﷺ عن الرؤيا وتعبيرها. فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن سمرة بن جندب (رضي الله عنه) قال: «كان النبيُّ ﷺ إذا صلَّى صلاةً أقبلَ علينا بوجهِه، فقال: مَنْ رأى منكم الليلةَ رؤيا؟ قال: فإِنْ رأى أحدٌ قصَّهَا. فيقولُ: ما شاءَ اللهُ. فسألَنا يومًا فقال: هل رأى أحدُ منكم رؤيا؟ قلْنَا: لا. قال: لكني رأيتُ الليلةَ …». فيظهر أن النبي ﷺ كان يسأل الصحابة الكرام عن رؤاهم؛ ليعبرها لهم، فإن لم يقص عليه أحدهم رؤيا، قص هو ﷺ رؤيا عليهم، وعبرها لهم.
وقد اختلف تعبير الرؤيا قبل الإسلام عنه بعد الإسلام؛ فبعد أن كان مقتصرًا على الحدس والفراسة قبل الإسلام، صار في الإسلام جزءًا من العقيدة والسنن النبوية. فأما كونه من العقيدة، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي ﷺ قال: «رُؤيا المؤمِن جُزءٌ من سِتَّةٍ وَأربعينَ جُزءًا مِن النُّبوَّةِ»؛ وأما كونه من السنن النبوية المستحبة، فقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا رأى أحدُكم الرؤيا الحسنةَ فلْيُفسرْها، ولْيُخبرْ بها».
وخلال عهد النبي ﷺ رويت العديد من الرؤى الصادقة التي كانت تقوم بأدوار دينية مهمة فبعضها بشرى بالنصر والتمكين للمسلمين، وبعضها تزكية للمسلمين الصالحين، وبعضها نصيحة للمسلمين المقصرين. ومن أمثلة ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أن النبي ﷺ قال: «رأيتُ ذاتَ ليلَةٍ – فيما يرى النَّائِمُ – كأنَّا في دارِ عقبةَ بنَ رافِعٍ. فأُتينا برُطِبٍ مِن رُطبِ ابنِ طابٍ. فأوَّلتُ الرِّفعةَ لنا في الدُّنيا، والعاقبةَ في الآخِرَةِ، وأنَّ دينَنَا قد طاب». ومن أمثلة ذلك أيضًا تزكية الرؤيا لدين عمر بن الخطاب وصلاحه وتقواه (رضي الله عنه)؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة (رضي الله عنهما) أن النبي ﷺ قال: «بينما أنا نائمٌ رأيتُ الناسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وعليهِم قُمُصٌ، منها ما يَبْلُغُ الثَّدْيَ، ومنها ما يَبْلُغُ دونَ ذلك. ومَرَّ عَلَيَّ عمرُ بنُ الخطابِ وعليه قميصٌ يَجُرُّهُ. قالوا: ما أَوَّلْتَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: الدِّينُ». ومن أمثلة ذلك أيضًا الرؤيا التي تنصح الصحابي عبد الله بن عمر بقيام الليل؛ فقد روي عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: «كان الرجلُ في حياة النبي ﷺ إذا رأى رؤيا قصها على النبي ﷺ. فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي ﷺ. وكنتُ غلاما شابا عزبا، وكنتُ أنام في المسجد على عهد النبي ﷺ. فرأيت في المنام كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان كقرني البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فلقيهما ملك آخر، فقال لي: لن تراع. فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي ﷺ، فقال: نِعْمَ الرجلُ عبد الله، لو كان يصلّي بالليل. قال سالم (بن عبد الله بن عمر): فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلًا».
وقد دخلت الرؤيا في التشريع الإسلامي أيضًا في عهد النبي ﷺ. فشُرع الأذان للصلاة في الإسلام بإقرار النبي ﷺ لرؤيا رآها الصحابي عبد الله بن زيد (رضي الله عنه). فقد روي عن عمومة أبي عمير بن أنس أنه قال: «اهتمَّ النبيُّ ﷺ للصلاة، كيف يجمع الناسَ لها. فقيل له انصُب رايةً عند حضور الصلاةِ، فإذا رأوها آذنَ بعضُهم بعضًا، فلم يعجبْه ذلك. قال: فذكر له القنعُ، يعني الشبورَ. وقال زياد: شبورُ اليهودِ، فلم يعجبْه ذلك. وقال: هو من أمرِ اليهودِ. قال: فذُكر له الناقوسُ. فقال: هو من أمرِ النصارى. فانصرف عبدُ اللهِ بنُ زيدٍ بنِ عبدِ ربِّه وهو مهتمٌّ لهمِّ رسولِ اللهِ ﷺ، فأريَ الأذانَ في منامِه. قال: فغدا على رسولِ اللهِ ﷺ فأخبره. فقال له: يا رسولَ اللهِ إني لبين نائمٍ ويقِظانٍ إذ أتاني آتٍ فأراني الأذانَ. قال: وكان عمرُ بنُ الخطابِ (رضيَ اللهُ عنهُ) قد رآهُ قبل ذلك، فكتمهُ عشرينَ يومًا. قال: ثم أخبر النبيَّ ﷺ. فقال له: ما منعك أن تخبرَني؟ فقال: سبقني عبدُ اللهِ بنُ زيدٍ، فاستحييتُ. فقال رسولُ اللهِ ﷺ: يا بلالُ! قمْ فانظرْ ما يأمرُك به عبدُ اللهِ بنُ زيدٍ فافعله. قال: فأذَّن بلالٌ».
إن أبرز ما يتميز به تعبير الرؤيا عند المسلمين عن الأمم الكافرة هو أن الرؤيا في الإسلام جزء من الدين ولها أهداف إيمانية كبيرة، عكس تعبير الرؤيا عند الأمم الأخرى، والتي لا تعدو مجرد إخبار ببعض مكنونات النفس، أو ضربًا من الوثنية والتنجيم.
ترك النبي ﷺ باب تعبير الرؤيا مفتوحًا لا ينغلق بانتهاء النبوات مؤكدًا على ارتباطها بالدين الإسلامي وبالمسلمين ارتباطًا وثيقًا لا ينتهي إلى يوم القيامة. فقد روي عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) بإسناد صحيح أن النبي ﷺ قال: «إنَّ الرِّسالةَ والنُّبوَّةَ قد انقطعت فلا رسولَ بعدي ولا نبيَّ. قالَ (راوي الحديث): فشقَّ ذلِكَ على النَّاسِ. فقالَ (النبي ﷺ) لَكنِ المبشِّراتُ. فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ! وما المبشِّراتُ؟ قالَ: رؤيا المسلمِ، وَهيَ جزءٌ من أجزاءِ النُّبوَّةِ.
وقد جاء في الرؤيا الصادقة ما يؤرخ لوفاة النبي ﷺ وصاحبيه أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) ودفنهم في بيت السيدة عائشة أم المؤمنين (رضي الله عنها). فقد روي بأسانيد متعددة بعضها رجاله رجال الصحيح عن السيدة عائشة أم المؤمنين (رضي الله عنها) قالت: «رأَيْتُ كأنَّ ثلاثةَ أقمارٍ سقَطْنَ في حِجْري. فقال أبو بكرٍ: إن صدَقَتْ رؤياكِ دُفِن في بيتِك خيرُ أهلِ الأرضِ ثلاثةٌ. فلمَّا مات رسولُ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم قال لها أبو بكرٍ: خيرُ أقمارِك يا عائشةُ. ودُفِن في بيتِها أبو بكرٍ وعمرُ».
والله أعلم.
انقر هنا للاشتراك فورا في خدمة تعبير الرؤيا على الأصول الشرعية الإسلامية